Subscribe

Cum sociis natoque penatibus et magnis
[contact-form-7 id="1210" html_class="cf7_custom_style_1"]

سامر الطباع : يلاحق الضوء وانكساراته

“أبق عينيك على النور لتعبر كل هذا الظلام”. – جلال الدين الرومي

يقدم الفنان سامر الطباع(1945) تجربة جديدة في غاليري كريم بعمان، كعادته سامر الطبّاع يختلف في رؤيته الفنية مع المناخ الفني الأردني، ويتفرد في تأملاته التي تنساق نحو الإشتباك بالمحيط والحيّز الذي يعشق، حيث تمشي أقدامه باحثا عن عمله الفني في الطبيعة وموادها، من أخشاب وحجارة وفحم ولدائن، فهو ينزح في هذه التجربة نحو إنكسارات الضوء ومداياته التفاعليه مع الأشياء، لتصبح المسافة بين أصل الضوء وانكساره مسافة يتابعها الفنان بصدقية ووعي عاليين،
غبطة ولذالذة تقوده نحو التقاط الفكرة وتمجيدها في لحظة الخلق الفني.

فهو بعيد كل البعد عن الغنائية اللونية، منتصرا لذاته وغبطته في لحظاته الإبداعية، حيث تصبح المادة التي يعمل بها هي الأساس للطاقة التعبيرية القصوى عبر الذهاب بها إلى تاريخ جديد اسمه الفن ” أو النحت الحداثوي” فالمادة هي تجليات الذات في عشقها العميق الذي يكاد أن يصل إلى مصاف الصوفية في سياق التفاعل معها وتوظيف حركتها وكينونتها في العمل الفني، كمن يتابع تحولات الخشب عبر رائحته الغامضة في المادة وصولا إلى الإحتراق، فهو ُيبقي على عفويته ويحاورها برضا العاشق، يمشي مع حزوزها كخطوط رسمتها الطبيعة له، يحاورها بوعي الفنان القادر على ايجاد حلول تعبيرية ذات بعد تجريدي خالص، فقد حذف الثرثرة وذهب إلى جوهر الفعل التعبيري من خلال المادة وطبائعها المتحولة، فجذع الشجرة في أصله يتحول عبر النار إلى فتات من الفحم الداكن لينثرة في مساحة الشمع التي تحتفظ ببكارة اللون وصورة الفحم الذي نتحسسة في السطح النحتي، حيث يظهر كندوب سوداء تتجانس مع أصلها مشكلة صورة من أصل الشجرة، هي صيرورة المادة التي انخلقت لتملتك تاريخا جديدا في العرض، وتنتقل من الطبيعة إلى صالة
العرض.

يقول سامر الطباع: “ابحث عن القوة الأساسية في المادة التي أستعملها في ذلك الوقت، أتعاون أكثر مما أخضع، باحثا عن الحرية القصوى عبر إرساء حوار حيث تبقى كل الخيارات مفتوحة، لكن واحدة من هذه الخيارات فقط هي الامثل”
فمن هذه المقولة نستطيع أن نتحسس فلسفة الفنان في عمله الفني والذي يحمل رسالة عظيمة تتحقق في إطلاق الخيال الابداعي ليجوس مناطق بكر لم يطأها غيره.

فلسفة مبنية على التفرد والعزلة التي قادته إلى القبض على جوهر الفن، غير آبه بما يدور في السوق من غنائيات جهلوية تورط فيها الكثير من الفنانين، لذلك نراه في كل تجربة يقدمها يثير لدينا الكثير من الأسئلة الثقافية والفلسفية، هي أعمال ناقدة لواقع متورط بوهم الأشياء، يذهب كناسك إلى مساحته الخاصة محاولا فهم حركة الوجود وتجلياته في المادة الأولية للأشياء، فالنحت بالنسبة له كون واسع يتحقق عبر مغامرة المخيال في تقديم مادة جديدة تعطينا الكثير من الطاقة الكامنة فينا، هو الشغوف بقوة المادة المتمظهرة في الطبيعة، يبحث عنها كصيد ثمين، يقبض عليها ليطلقها في خياله محققا صدمته الخاصة مع المتلقي، فمرآته التي تنعكس فيها الأشياء غير تلك المرآة التي تظهر صورة الشكل التقليدي للأشياء، ففي كل مكان يكون فيه ثمة ضوء يجذب روحه ليحل”حلولية” في الأشياء وتصبح كيانا مضيئا نستدل به عليه، حجر أو
جذع شجرة أو زجاجة انكسر فيها النور أو قطعة فحم أضاءت عتمة اللحظة الخلاّقة.

يتأنى طويلا في البحث عن ضالته في الطبيعة وما تركته لأعيننا العمياء ليضيؤها بفلسفته الخاصة من خلال إحالات فنية قوية، فسكة الحديد مثلا التي كانت ولم تزل لها تلك الذكريات في مخيلته تعود لتظهر بصورة جديدة في مناخ العرض عبرمتوازيات من مجسمات خشبية هندسية تنسجم عبر اختلاف أحجاوها وعمقها وظهورها لتقدم نفسها أقرب إلى أصابع البيانو، ذلك الصوت الذي حمله صفير القطار وما يثره من قوة في سفر المخيلة وتجلياته المدّوة في ذاكرته التي تلّوح لنا بترميز عميق يثير فينا الذكريات والأسئلة، ف ّخزان الذاكرة البعيد هو إحدى مؤوناته الجوهرية في مادته الفنية وسياقها السردي، كمن يسطع النور في أعماقه ليعرج إلى قوة المادة وجوهرها بعيدا عن صورتها الواقعية، فهو بذلك يعيد دوزنة الأشياء كما يريد لها أن تتمظهر لنا، فالتجويف مثلا في أصله كتلة خرجت من تاريخها لتقفز متجاورة مع أصلها أو مع تأثيلها، حيث تتحرك تلك الكتل النافرة كبقايا انفجار خرج. عن طوع وجودها، مشكلة حركة حيوية جديدة، فالأسود المتموج هو في الأصل كان مادة تحبل بها الأرض” الزفته” تتكون بوجودها الجديد ككتلة نحتية غرائبية تشرب الضوء أو ت ّولد ظلالا داكنة وعميقة كي تعطينا فرصة لكثير من التحدّيق، تأخذنا إلى باطنها، حيث الأسود يجوهر الكون كلّه في لحظة واحدة، ممتلكة زمنها الخاص وخصوصية وجودها الصامت بأسراره، والتي تتوالد بالتأويل والترميز المستمرين، فهو يقدم اختبارا كدودا في فكرة التأويل وتشفيره وترميزه، فلم يقف سامر الطباع.

 

عند رغبته الخاصة فيما يخص فهمه للفن وما يثيره في وجود المادة وطاقتها المنتقلة من اصلها إلى فضاء العرض، بل ظل مخلصا لما يؤمن به من حرية شبه مطلقة لخصوصية الوجود وحركة الكون التي لا تنفصل أبدا عن الكائن الإنساني، فقدم الأسود الجليل كأصل للكون، أي قبل وجود الضوء بكون الضوء الكاشف عن طبائع الألوان، كمن يبحث عن أصل رحم الكون والثقب الأسود الذي أثار معظم فلاسفة الكون، كمن يثير “أتيمولوجيا” المفردات وذواتها وهذا التوجه نتلمسه فيما يذهب إليه الطباع صاحب العين الصافية والرؤيا الإشراقية، وأذكر هنا ما قاله المتصوفة” إذا فلقت بذرة فسوف تجد في قلبها شمسا”.

 

فالمشاهد لأعمال الطباع، ذلك الفنان المقل فعليه أن يستحضر روح التأويل والتعامل مع تلك الاعمال كقيمة فنية عليا تمتلك روح المقدس بوجودها، فلا بد من محاورتها وملامسة ظاهرها للوصول إلى جوهرها المتحقق بقوة المادة وحضورها المختلف.

 

محمد العامري- فنان وناقد 2022 عمان